تمكّن الوجود العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية، من صناعة وبناء حضارة إنسانية شاملة، جمعت بين المدنية المادية والقيم السامية، سواء تعلَّق الأمر باحترام الخصوصيات الثقافية، أو السماح بحرية الإبداع والمعتقد. وقد تمخّضَ عن خروجهم من الأندلس صدعٌ كبير في الثقافة العربية، يستدعي المراجعة والتصويب، والتصحيح؛ باعتباره نكسة حضارية فارقة، أعادت الحضارة العربية إلى البدائية وأزمنة الهزيمة. ونشأ عن هذا الانكسار شعور قويّ يُمكن نعته بالنوستالجيا الأندلسية أو ألم الشوق إلى الأندلس. وهو عبارة عن حنين قومي وذاتي إلى البيئة الأندلسية وفضاءاتها، ولم تتمكن الذَّات العربية من التخلص من هذه المشاعر التي تجمعها بأمجاد الماضي وعطائه الحضاري. وتوارثت أجيال على اختلاف أعمارها ومشاربها الفكرية وأيديولوجياتها السياسية وانتماءاتها القومية والمذهبية حب الأندلس، فباتت تتغنى به رغم مرور الأزمنة واختلاف الظروف والملابسات. فتحوّلت الرحلة إلى الأندلس من فضاء للتسوق والسياحة، إلى رثاء للمدن، وبكاء على ماضٍ عتيق، جمع بين العلم والأدب والفن، وبلغت تأثيراته الكون والإنسانية قاطبة، وكانت شهادات مستشرقي الغرب أنفسهم دليلًا مقنعًا على فاعلية هذه الحضارة، بمنجزاتها التي لا تزال قائمةً وشاهدةً على ذلك إلى يومنا هذا.